الاصدارات

أوراق بيضاء

مكافحة الفساد في اليمن

مكافحة الفساد في اليمن
صيادين في محافظة الحديدة

يعتبر الفساد، أو إساءة استخدام السلطة لتحقيق مكاسب خاصة، راسخاً بعمق في الاقتصاد السياسي اليمني. على مدى عقود، شهد اليمن عدة حالات استحواذ على مقدرات الدولة، حيث كان القادة السياسيون من أعلى المستويات ينتزعون عائدات مؤسسات الدولة لتستفيد منها قلة مختارة. وكان الفساد الإداري أيضاً شائعاً في اليمن: فالرشوة في المستويات الدنيا والمحسوبية أصبحا جزءاً من الحياة اليومية. ويمكن القول بوجود قبول ثقافي – بل وتوقع – للفساد في السياسة والأعمال، حيث أصبحت الشبكات غير الرسمية أكثر نفوذاً من المؤسسات الرسمية.

تعود أصول الاستحواذ على الدولة والفساد الإداري في اليمن إلى فترة الرئيس حكم علي عبد الله صالح[1] . ففي عهده قامت مجموعة من النخب ببناء نظام محسوبية على مدار الثمانينات والتسعينات قبل وبعد توحد شطري اليمن.[1] كان المستفيدون الرئيسيون من النظام الجديد هذا هم أسرة صالح والنخبة القبلية والعسكرية والتجارية المقربة منه، بما في ذلك منطقة صالح (سنحان)، والتي تم تعيين أبنائها في المستويات العليا من الهياكل العسكرية والأجهزة الأمنية في اليمن. كانت قواعد اللعبة بسيطة: هبات ترعاها الدولة مقابل الولاء للنظام. بعد اكتشاف النفط في اليمن منتصف ثمانينات القرن الماضي، أصبحت ريوع النفط والغاز تموّل توسعة وحماية شبكة محسوبية صالح.

بعد ضغوط المجتمع الدولي للتصدي للفساد المستشري في اليمن، تم استحداث موجة من الإصلاحات لمكافحة الفساد في منتصف العقد الأول من القرن الحالي. على الرغم من المديح الذي ناله في ذلك الوقت ما بدا أنه تقدم في معالجة الفساد، إلا أن كل تلك الإصلاحات أثبتت على المدى الطويل عدم فعاليتها. في غضون ذلك، انخفض إنتاج النفط اليمني بعد عام 2001، وأصبح نظام محسوبية صالح أقل قابلية للدوام بمرور الوقت.

أوائل العام 2011، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء اليمن، ما دفع نحو تصارع قوى النخبة في صنعاء على السلطة. توحد المتظاهرون في ظل عدائهم المشترك لمنظومة فاسدة مقترنة بشكل وثيق بصالح وأتباعه. تنحَى صالح في فبراير / شباط 2012، ليخلفه الرئيس عبد ربه منصور هادي ، وتحدث هو والحكومة الانتقالية بشكل صارم عن الفساد. ومع ذلك فإن ما حدث هو فقط ازدياد الفساد في ظل الحكومة الجديدة: فقد تسارعت مدفوعات المحاسيب، وزاد استغلال دعم الوقود من قبل القطاع الخاص، وتسربت الأموال من المساعدات الإنسانية والإنمائية التي قدمها المجتمع الدولي. وفي سياق محاربة الفساد، حشد الحوثيون دعماً جماهيرياً. وبعد دخولهم صنعاء في سيبتمبر/أيلول من عام 2014 بدعم مفترض من الرئيس السابق صالح، أعلنوا عن نيتهم محاربة الفساد وقدموا أنفسهم كبديل جيد في ذلك الوضع. وتحت شعار مكافحة الفساد بدأوا بمحاولة إخراج هادي من السلطة عام 2015، وهي الخطوة التي استجلبت في النهاية التحالف الذي تقوده السعودية والداعم لحكومة هادي ما أدى إلى توسع هائل في نطاق النزاع.

على مدار النزاع الحالي، يشهد اليمن فساداً لا يتوقف وبحسب نفس القواعد التي كانت سائدة قبل الحرب وعلى المسبتوى نفسه. ومع تسبب النزاع بتشظي البلاد، أصبح الاستحواذ على الدولة اليمنية أكثر تعقيداً بكثير. 

في اقتصاد الحرب، تظهر شبكات المحسوبية الآن بين شخصيات هامشية أو غير معروفة سابقاً. وقد ساهمت المشاركة المالية لكل دول التحالف السعودي في رعاية المصالح العابرة للحدود الوطنية، تاريخياً اعتاد اليمن على درجة من الموالاة للسعودية. يشير التواطؤ المزعوم بين المستوردين المحسوبين على الحوثيين والمسؤولين المتحالفين مع الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً إلى شبكات المحسوبية التي قد تعبر الخطوط الأمامية للحرب نفسها. ومع تزايد وتنوع الجهات الفاعلة المتربحة من النشاط غير المشروع في اقتصاد الحرب، أصبحت المصالح الاقتصادية المستثمرة في تواصل النزاع أكثر فأكثر رسوخاً.

على أي شخص مهتم ببناء يمن مستقر بعد النزاع أن يأخذ على محمل الجد التحدي الذي يطرحه الفساد ضمن اقتصاد الحرب في اليمن. ومن هذا المنطلق، نقدم المبادئ والتوجيهات/التوصيات التالية:

مبادئ توجيهية/توصيات لصانعي السياسات بهدف معالجة الفساد في اليمن:

  • المبدأ التوجيهي رقم 1: الاعتراف بالتعقيد. على أية محاولة للتصدي للفساد في اليمن أن تعترف بـ/وتهدف إلى فهم آليات الفساد المعقدة والمحددة بسياقاتها في قلب اقتصاد الحرب في اليمن، بالإضافة للجهات الفاعلة المعنية وأي مصالح سياسية واقتصادية متداخلة. سيسمح الفهم السياقي المتطور لمقرري السياسات بمقارنة الفوائد وتوقع المزالق المحتملة أثناء وضع استراتيجية لمكافحة الفساد.
  • المبدأ التوجيهي رقم 2: التنفيذ التدريجي. بالنظر إلى ارتفاع مستويات الاستحواذ على مقدرات الدولة وانتشار الفساد الإداري في اليمن، سيكون من غير الواقعي وربما الضار بالنسبة لصناع السياسات تطبيق استراتيجية مكافحة فساد مفاجئة وهجومية، ويجب أن تتم استعادة مقدرات الدولة بشكل تدريجي، مع تنفيذ مرحلي لإصلاحات مكافحة الفساد بما يحد من التسبب بصدمة لمنظومة الفساد. إن أية محاولة لمحاربة الفساد بطريقة مستعجلة أو سطحية ستؤدي لأخطاء جسيمة في السياسات، تجعلها تقود إلى معاناة أكبر بين أفراد الشعب اليمني بدل تقييد تصرفات الأفراد الفاسدين.
  • المبدأ التوجيهي رقم 3: إشراك أكبر عدد ممكن من الفاعلين. نظراً لانتشار الفساد في اليمن على أوسع نطاق، ينبغي ألا تستهدف جهود مكافحة الفساد بشكل انتقائي أي جهة فاعلة واحدة، بل أن تسعى بدلاً من ذلك إلى التأثير على النظام ككل. إذا كان هناك أي تقدم في تحقيق سلام قصير أو طويل المدى، فسوف يحتاج صانعو السياسة إلى كسب تأييد أكبر عدد ممكن من الفاعلين.

توصيات سياسات عامة ليمن ما بعد النزاع:

  • الاعتماد على إطار مكافحة الفساد الحالي في اليمن من خلال تمويل مؤسسات مكافحة الفساد الحالية التي تديرها الدولة، وتشجيع المزيد من التنسيق وتبادل البيانات فيما بينها.
  • تشجيع الشفافية والمساءلة من خلال المطالبة بمعايير أعلى من الإفصاح العام، ولا سيما بشأن المناقصات الحكومية ورواتب المسؤولين المعينين وكبار الموظفين الحكوميين.
  • الحد من تضارب المصالح عبر إلزام موظفي الحكومة بالقانون والتخلي عن تحكمهم بأي أعمال تجارية خاصة، وإنشاء مراكز تعقب في شركات الطاقة التي تديرها الدولة، وتنفيذ اللوائح المتعلقة بتكافؤ فرص العمل داخل القطاع العام، وإصلاح الجهاز العسكري والأمني.
  • تحسين إدارة الموارد المالية الحكومية من خلال بناء نظام صارم لمراقبة صرف الأموال الحكومية، بما يجعل البنك المركزي اليمني مستقلاً تماماً. يتطلب ذلك الالتزام بتشريعات مكافحة الفساد لاستمرار الحصول على مساعدات الجهات المانحة الخارجية، ومراقبة المساعدات المالية المقدمة عن قرب لمشاريع إعادة الإعمار والتنمية المحلية في فترة ما بعد الحرب.
  • نزع مركزية السلطة الاقتصادية من خلال تمكين السلطات المحلية من تقديم الخدمات العامة وتنفيذ مشاريع التنمية المحلية، والمساعدة في إنشاء وتوسيع الشركات الصغيرة والمتوسطة (SMEs) وتمكين وكالات مكافحة الفساد من مراقبة شركات استيراد الوقود.

 


[1] كان اليمن مقسما إلى شطرين (جنوب اليمن وشمال اليمن)، حيث توحدت الجمهورية العربية اليمنية (الشمال) مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الجنوب) في 22 مايو 1990 لتأسيس دولة جديدة باسم الجمهورية اليمنية.

أقرا أيضًا في أوراق بيضاء

التمويل الأصغر في اليمن: نظرة عامة على التحديات والفرص

أبريل 30، 2020 أوراق بيضاء
دخل مفهوم التمويل الأصغر إلى اليمن عام 1997، حيث رأته الحكومة حينها، بفضل دعم الدول المانحة، أداة استراتيجية تخفف من الفقر وتساعد في الحد من البطالة عبر توسيع نطاق الخدمات المالية المقدمة إلى رواد الأعمال وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، وبالتالي زيادة حصتهم في الاقتصاد الوطني. لكن التحديات المتواصلة التي تواجه قطاع التمويل الأصغر أعاقت نموه وعرقلت قدرته على الوصول إلى السكان وعلى…

القوى اليمنية العاملة المغتربة تحت التهديد: الدور الحيوي للتحويلات المالية في الحد…

مايو 30، 2019 أوراق بيضاء
على مدى عقود، دفعت شحة فرص كسب العيش في اليمن، مئات آلاف اليمنيين للسفر نحو الخارج بحثا عن عمل، ونظرا للعجز المزمن في الحصول على التعليم الجيد في اليمن، فقد كان غالبية هؤلاء من العمال غير الماهرين أو شبه الماهرين، وقد كان لقرب السعودية وقوة اقتصادها القائم على النفط أن جعلها وجهة طبيعية لمعظم القوى اليمنية العاملة في المهجر، كما أن الازدهار الاقتصادي في دول الخليج في السبعينات والثمانينات…

قطاع النقل البرّي والطّرق في اليمن القضايا الحرجة والسياسات ذات الأولوية

مارس 17، 2022 أوراق بيضاء
يعدّ النقل البري أحد أهم وسائل النقل وأكثرها استخداما. اليمن يعتبر بلد ريفي في الغالب حيث يعيش أكثر من 70% من السكان في 140,000 تجمّع سكاني ينتشر في أنحاء الريف، ويحتاج معظمها إلى طرق وتضمّ أكثر السكان فقرا. وبالتالي فإن النقل البري ضروري للتنمية الريفية والنمو الاقتصادي العام. وتشكّل الطرق الريفية تحدّيا كبيرا للتنمية في اليمن؛ إذ لم تعبّد منها إلا نحو 3,744كم في المناطق الريفية، وهي لا…