موجز السياسات
الإجـراءات الاقتصـادية لبناء الثقة - رواتب موظفي الخدمة المدنية
ملخص تنفيذي
شهدَ شهر ديسمبر 2018 لقاءً جمع بين 23 خبيراً يمنياً بارزاً في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية. وناقش اللقاء، الذي عقد في العاصمة الأردنية عمّان ضمن فعاليات منتدى رواد التنمية الرابع، السبل الاقتصادية لبناء الثقة في سياق عملية السلام في اليمن، حيث تناولت النقاشات، التي تأتي في إطار مبادرة إعادة تصور الاقتصاد اليمني، عدداً من الآليات الاقتصادية التي يمكن العمل بها لبناء الثقة.
اشتملت هذه الآليات على دعم البنك المركزي بصفته مؤسسةً مستقلة تخدم جميع محافظات اليمن، والتأكد من إيداع الإيرادات العامة في جميع المحافظات إلى الحسابات التي يحددها البنك المركزي بالعاصمة المؤقتة عدن، وفتح المنافذ وضمان حرية الحركة للبضائع بين المحافظات، فضلاً عن المساعدات الإنسانية والمسافرين. وركّز المنتدى على دفع رواتب ومعاشات جميع العاملين في القطاع المدني الحكومي في ظلّ الأهمية المحورية لهذه القضية. يورد هذا الملخّص نتائج هذه النقاشات.
أوصى منتدى رواد التنمية بقيام الحكومة اليمنية بمعاودة صرف رواتب جميع العاملين المدنيين الذين يعملون في الجهاز الإداري للدولة بالاستناد على قاعدة بيانات وزارة الخدمة المدنية والتأمينات لعام 2014 في مختلف أنحاء اليمن، كون ذلك سيمثل خطوةً رئيسيةً من شأنها تخفيف الأزمة الإنسانية في اليمن وبناء الثقة بين الأطراف المعنية بعملية السلام في ذات الوقت، على أن تكون الأولوية لصرف رواتب العاملين في قطاعي التعليم والصحة، ويجب على الحكومة اليمنية أن تستمر أيضاً بتوفير السيولة في سبيل ضمان دفع معاشات جميع متقاعدي القطاع العام. في المقابل، يجب على حركة انصار الله السماح بوصول جميع العائدات الحكومية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها إلى الحسابات التي حدّدها البنك المركزي في اليمن بمقره المؤقّت في عدن. ويتوجّب على كل الأطراف أن تبذل قصار جهدها في سبيل إعادة تشغيل البنك المركزي اليمني ليكون مؤسسةً وطنيةً تخدم جميع مناطق اليمن. ويدعو منتدى رواد التنمية المانحين الإقليمين والدوليين لتغطية أي عجز في التمويل في سبيل دفع الرواتب والمعاشات.
المقدمة
تعد الحكومة اليمنية موظفاً رئيسياً للعمالة في اليمن، حيث شهد القطاع العام في اليمن نمواً مضطرداً خلال عقد التسعينات في ظلّ تفشي المحسوبية وسعي الأحزاب السياسية وقتها إلى كسب الدعم الشعبي عبر توزيع الوظائف المدنية والعسكرية، لتصل حصة القطاع العام إلى حوالي 30.6% من إجمالي العاملين في اليمن بحلول العام 2014، كما يظهر الشكل 1. إلا أن هذه النسبة لا تمثل العدد الحقيقي من الموظفين نتيجة لانتشار ما عُرف “بالازدواج الوظيفي” الذين شغلوا أكثر من منصبٍ وكانوا يحصّلون على أكثر من راتبٍ واحد، فضلاً عن “العاملين الوهميين” وهم موظّفون ليس لهم وجود فعلي، بل عبارة عن أسماء وهمية يقوم رؤساؤهم بتحصيل رواتبهم.
الجدير بالذكر أن نسبة كبيرة من السكان يعتمدون في معيشتهم على الرواتب الحكومية والمعاشات التقاعدية والمعونات التي كانت تُوزّع من خلال صندوق الرعاية الاجتماعية، ولقد بلغت هذه النسبة أعلاها في محافظات الجوف، أبين، مأرب وأمانة العاصمة (صنعاء) وبنسبة 40% من سكان هذه المحافظات وأدناها في كل من الحديدة والبيضاء وبنسبة 7% من السكان في عام 2017 ، كما يُبيّن الشكل 2 ونتيجةً لذلك، استحوذت رواتب ومعاشات القطاع الحكومي على حصةٍ كبيرةٍ من الكتلة النقدية في الدورة الكلية للاقتصاد، والدورتين النقدية والمالية. كما كان لهذه الرواتب تأثيراً مباشراً وغير مباشر على مجموعة من المؤشرات الاقتصادية، مثل إجمالي الناتج المحلي، والميزانية العامة للدولة والعرض النقدي.
لكن بحلول سبتمبر 2016م، تمّ تجميد صرف رواتب 1.2 مليون موظّف في القطاع العام في ظلّ أزمة سيولة في سبتمبر 2016، وتم في نفس الشهر صدور قرار نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن. وفي مطلع عام 2017 أعيد صرف الرواتب من جديد في وقتٍ مبكّر من 2017، ولكن فقط في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وبعد تأخير بلغ خمسة أشهر. ولا يزال هناك اليوم ما يقارب 50% من موظّفي القطاع العام يعملون بدون راتب، وفيما كانت معاشات المتقاعدين تصرف لحوالي ثلثي متقاعدي الخدمة المدنية المسجلين، وقد تم التوسع في الصرف منذ شهر نوفمبر 2018م ليشمل جميع المتقاعدين في أرجاء اليمن.
وكان لذلك تداعياتٌ كارثيةٌ بسبب اتساع الرقعة التي يشملها القطاع العام في اليمن، في وقتٍ ألقت فيها أسوأ أزمةٍ اقتصاديةٍ وإنسانية في العالم بظلالها على البلاد، إذ يهدد شبح المجاعة حوالي 10 ملايين يمني، ويمكن إرجاع هذه الأزمة، في جزءٍ منها، لعدم قدرة هؤلاء على شراء الطعام. فالعاملون في القطاع العام يُعيلون في العادة أسر كبيرة، أو يكونون بمثابة طوق النجاة لقرىً بأكملها، وبالتالي فإن تجميد صرف الرواتب لموظفي القطاع العام قد ترك ملايين اليمنين بدون مصدر رزقٍ رئيسي، ويزداد الأمر سوءا في ظل عدم وجود من يقرضهم المال، فضلاً عن تدهور مستوى الخدمات في قطاعات الصحة والتعليم نتيجة التوقف عن دفع رواتب المعلمين والأطباء والممرّضين.
لا يمكن النظر إلى الملف الاقتصادي في اليمن بمعزلٍ عن الجانبين الأمني والسياسي في ظلّ الديناميكيات المتداخلة والمتشابكة التي تحكم مشهد الصراع في اليمن، ولذلك فإن ردم الأزمة الاقتصادية في اليمن كسبيلٍ لبناء الثقة خطوةٌ كبيرة لدعم عملية السلام، إذ إن إحراز تقدمٍ يقود إلى الاستقرار الاقتصادي سيحمل تداعياتٍ إيجابيةٍ من شأنها المساهمة في كسر دورة الصراع. لذلك تبقى معاودة صرف الرواتب لموظّفي القطاع العام خطوة هامّة للغاية لها أن ترفع من مستوى معيشة ملايين اليمنين.
نظرةٌ على القطاع العام
في عام 2014، كان هناك 1.25 مليون موظّف يعملون في وظائف حكومية في اليمن وفقاً لبيانات وزارة الخدمات المدنية والتأمينات يتوزعون على جهاز الدولة الإداري (القطاع المدني) بنسبة 38%، و52% في القطاعين الأمني والعسكري، و8% في وحدات القطاع الاقتصادي (مشاريع تملكها الدولة)، إضافةً إلى العاملين في وحداتٍ مستقلةٍ ومرتبطة، وصناديق التمويل الخاصة.
هناك نسبة كبيرة من العاملين في القطاع العام المدني والبالغ عددهم 472 ألف موظّف يعملون لدى السلطات المحلية ونسبتهم 87.6% من اجمالي الموظفين العاملين، وبالذات في قطاعات التعليم والرعاية الصحية العامة مقابل 12.4% في السلطات المركزية، كما أن ما نسبته 70% من أصل 653 ألف موظّف في القطاع العسكري والأمني يعملون لدى وزارة الدفاع، فيما يعمل ما نسبته 28% من موظّفي هذا القطاع لدى وزارة الداخلية، و2% لدى جهاز الأمن السياسي.
توضح بيانات الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات أن 88% من إجمالي 123 ألف متقاعد تُصرَف لهم معاشاتٌ تقاعدية في عام 2014 كانوا من الذكور، ولا يشمل هذا الرقم المتقاعدين من وزارات الدفاع أو الداخلية الذين لم تتوفر معلومات كافية بشأنهم.
شكّلت رواتب القطاع العام قبل اندلاع النزاع أحد أكبر بنود الإنفاق العام في إطار الموازنة العامة للدولة وبنسبةٍ وصلت إلى 32% من الإنفاق الحكومي بين عامي 2001 و2014. وبلغ معدل الإنفاق على رواتب القطاع العام في العام 2014 حوالي 1.14 ترليون ريال يمني، أي ما كان يعادل في ذاك الوقت 5.3 مليار دولارٍ أمريكي. وتوزعت هذه النفقات على القطاع الإداري المدني بحوالي 546.9 مليار ريال وبنسبة 48% من إجمالي الرواتب والأجور في القطاع العام، وحوالي 430.2 مليار ريال يمني على الخدمات العسكرية والأمنية وبنسبة 38%، فيما بلغت قيمة الرواتب والأجور لوحدات القطاع الاقتصادي والصناديق والهيئات المستقلة حوالي 162.4 مليار ريال يمني، مع العلم أن جزءا كبيرا من رواتب القطاع الاقتصادي يدفع من عوائد منفصلة عن الموازنة العامة للدولة. وأنفقت الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات حوالي 64.8 مليار ريال يمني عام 2014 لدفع معاشات المتقاعدين المسجّلين في كشوفاتها. ولم تُخصَم نفقات المعاشات من ميزانية الدولة، وإنما تمّ اقتطاعها من رواتب العاملين المدنيين.
تداعيات النزاع
أسهم النزاع بانزلاق الاقتصادَ اليمني إلى الانهيار، حيث توقفت صادرات النفط والغاز الطبيعي والتي كانت تمثل فيما مضى حوالي نصف الموارد العامة لموازنة الدولة، كما ساهم النزاع أيضاً في الانخفاض الحاد للعائدات الحكومية غير النفطية وتحديداً عائدات الجمارك والضرائب، فضلاً عن تشتت وانقسام هذه العوائد بين أنصار الله والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً.
خلال العام 2018 أنفقت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا حوالي 745 مليار ريالٍ يمني على الرواتب والأجور - وفقاً لبياناتٍ حكومية صدرت مطلع ديسمبر الماضي- وبما نسبته 76.3% فقط مما أنفقته الحكومة على هذا البند في عام 2014، ومع ذلك فقد زاد الإنفاق الحكومي على رواتب الخدمات العسكرية والأمنية بنسبةٍ وصلت إلى 15% مقارنة بعام 2014، وإن كانت لم تغطِّ سوى العاملين في القطاع العسكري والأمني في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة. وفيما يخص القطاع المدني لم يتجاوز الإنفاق على الرواتب والأجور ما نسبته 46.2% مما تم إنفاقه على نفس هذا القطاع في عام 2014، ويرجع ذلك إلى أن الحكومة لم تصرف سوى رواتب 51% من العاملين المدنيين بصورةٍ منتظمة.
نهاية عام 2018 وافقت الحكومة على زيادة رواتب موظفي الخدمة المدنية بنسبة 30%، وهو ما ضخّم تكاليف ميزانية الدولة في وقتٍ كانت تعاني فيه البلاد من شحة الإيرادات العامة وانقسام السلطات المالية، ولا زالت. وبالتالي فإن مثل هذا الإجراء سيعمل على مفاقمة العجز في الموازنة العامة وتزايد خطر التضخم، وبالأخص إذا ما لجأت الحكومة إلى طباعة المزيد من العملة المحلية وسحب أموالٍ أكثر من البنك المركزي تفوق ما يستطيع تحمله، وهو ما سيزعزع اقتصاد اليمن أكثر وأكثر، ما لم يكن هناك دعما مباشرا للموازنة عن طريق منحٍ خارجيةٍ تتكفّل بدفع رواتب العاملين المدنيين.
التوصيات
أثمرت النقاشات المعمّقة التي دارت في منتدى رواد التنمية عن التوصيات التالية، التي وُضِعَت استجابةً لأزمة الرواتب التي فاقمت، بدورها، الكارثة الإنسانية في اليمن.
- على الحكومة اليمنية أن تدفع رواتب جميع موظّفي وحدات الجهاز الإداري للدولة في جميع المحافظات وفقاً لقاعدة بيانات وزارة الخدمات المدنية لعام 2014.
- على الحكومة اليمنية أن تقدّم موظّفي قطاعي التعليم والصحة الذين يمثّلون 85% من العاملين المدنيين، والذين يقدّمون خدماتٍ لا غنى عنها لجميع اليمنيين.
- على الحكومة أن توافق على آليةٍ تضمن صرفاً دورياً للرواتب في جميع المحافظات اليمنية بصورةٍ مباشرة لحسابات المستفيدين في البنوك التجارية ومكاتب البريد.
- على المجتمع الدولي أن يرتّب اجتماعاتٍ بين المختصين الاقتصاديين في صنعاء وعدن بهدف إعادة تفعيل جميع مهام البنك المركزي وتنسيق السياسات المالية والنقدية.
- على حركة أنصار الله دفع جميع العائدات في المناطق الخاضعة لسيطرتها للحسابات التي يحددها البنك المركزي اليمني بالعاصمة المؤقتة عدن.
- على الحكومة اليمنية أن تستمر في توفير السيولة النقدية لدفع المعاشات التقاعدية لجميع المتقاعدين المسجّلين في الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات والمؤسسة العامة للتأمينات. ويشدّد منتدى رواد التنمية، في هذا السياق، على أهمية صون موارد هذه المؤسّسات وعدم استخدامها لأية غاياتٍ أخرى.
- على المانحين الإقليميين والدوليين توفير الدعم المالي لتغطية نفقات الرواتب الجديدة في ظلّ عدم قدرة المصادر المحلية على سدادها، ويجب أن يكون ذلك على هيئة دعمٍ مباشرٍ للموازنة العامة للدولة. ويجب على الحكومة أن تضمن ذهاب هذا الدعم لتمويل الرواتب والمشاريع التنموية الضرورية وفق مبادئ الحكم الرشيد والشفافية والمساءلة.
- على جميع الجهات احترام قانون البنك المركزي وإعادة تفعيل البنك المركزي كمؤسّسةٍ وطنيةٍ تخدم كل المحافظات اليمنية وتحمي قيمة العملة الوطنية.
- على كافة أطراف النزاع الالتزام بعدم تعيين أي عاملين جدد في القطاع العام. فقد باتت نفقات الرواتب الجديدة في القطاع العام، ومنها القطاع العسكري والأمني، قنبلةً موقوتةً تهدّد استقرار الاقتصاد اليمني في المستقبل، وستواجه الدولة صعوباتٍ بالغةٍ في تحمل أعباء دفع رواتب قطاعٍ عامٍ متضخم بعد الوصول إلى اتفاقية سلام. ولهذا فإن منتدى رواد التنمية يوصي أيضاً بأن يقوم المختصون بتقديم المشورة والنصح على أمل الوصول إلى استراتيجيةٍ للتعامل مع هذه المشكلة على المدى المتوسَط والطويل.
- على منظّمات الإغاثة الإنسانية أن تزيد من التحويلات النقدية المباشرة (بدلاً عن المساعدات العينية)، فهذا من شأنه أن يُنعش الاقتصاد الوطني.
يتوجّب على جميع الجهات أن تواصل التركيز على المسار الاقتصادي في أيّ محادثاتٍ ومفاوضاتٍ سياسيةٍ مستقبلية.